من سواحل المتوسط إلى خانات المغول.. أدب الرحلات في كتابات ماركو بولو وابن بطوطة

في أواخر القرن الـ13 الميلادي وأوائل القرن الـ14 كان أدب الرحلات العالمي على موعد مع اثنين من أكبر رواده على الإطلاق، أحدهما ولد على ضفاف البحر الأدرياتيكي (المتفرع من البحر المتوسط) عام 1254م، والآخر بعد نصف قرن وبالتحديد عام 1304 في مدينة تطل على ساحلين هما ساحل البحر المتوسط وساحل المحيط الأطلسي أو كما سماه “بحر الظلمات”.

ولم يكن المولد بمدينة ساحلية وتجارية مزدهرة هو ما يجمع بين ماركو بولو وابن بطوطة فحسب، بل دوّن كل منهما رحلاته وأسفاره الطويلة وكانا محظوظين ببقاء أغلب تراثهما محفوظا منذ قرابة 7 قرون حتى الآن شاهدا على ذروة أدب الرحلة في الغربين الأوروبي والإسلامي.

وشكّل أدب الرحلة تراثا ثريا بنيت عليه علوم الاجتماع والعمران، فقد كانت الرحلات الغربية المبكرة بوابة لعصور الاستكشاف والنهضة. ويقول الباحث المغربي زهير سوكاح -في حديث سابق للجزيرة نت- إن أدب الرحلة الأوروبية يعد وسيطا سرديا من وسائط الظاهرة الاستشراقية، وفي الوقت ذاته فإن هذا الجنس الأدبي يشكّل في حد ذاته إلى يومنا هذا منتجا للتعاطي الاستشراقي مع الآخر غير الغربي.



ماركو بولو

يُعدّ ماركو بولو أشهر المستكشفين الذين سافروا عبر طريق الحرير في العصور الوسطى. والسبب في ذلك أن ماركو، الذي ولد في 15 سبتمبر/أيلول بالبندقية، كان ابن التاجر المعروف نيكولو بولو الذي كان من أوائل الغربيين الذين سلكوا طريق الحرير إلى الصين.

وتعود شهرة ماركو الواسعة لكونه مصدرًا ثريًّا للمعلومات عن طبيعة السفر والترحال والمعالم الطبيعية في العصور الوسطى، حيث كان يدوّن في أسفاره ما كان يراه ويسمعه بدقة جعلت من كتابه مرجعًا فريدًا في أدب الرحلات، وهو الكتاب الموسوم بـ”رحلات ماركو بولو” أو كتاب “عجائب العالم” (بالفرنسية Livres des merveilles du monde)، نُشر في عام 1300 على وجه التقريب، وكتبه بالتعاون مع الكاتب روستيسيلو من بيزا.

ويقسم عجائب العالم إلى 4 كتب: يصف الأول أراضي الشرق الأوسط وآسيا الوسطى التي واجهها ماركو في طريقه إلى الصين، ويصف الثاني الصين بلاط قوبلاي خان، بينما يصف الثالث بعض المناطق الساحلية في الشرق اليابان والهند وسريلانكا وجنوب شرقي آسيا والساحل الشرقي لأفريقيا، ويصف الرابع والأخير بعض الحروب التي حدثت أخيرًا بين المغول وبعض مناطق أقصى الشمال مثل روسيا.

يصف الكتاب أيضًا، من بين أمور التجارة والترحال والسفر، رحلات ماركو على طول طريق الحرير ومختلف المناطق والمدن الآسيوية التي يجتازها ومنها الصين. كذلك يصف عادات الشعوب التي مر بها وغرائب بعضها، إذ يذكر في بعض الصفحات أقواما يأكلون لحوم البشر ومخلوقات صحراوية غير مرئية وآخرين يعيشون في حضارة متقدمة أكثر من الحضارة الأوروبية آنذاك.

ومن القصص الساحرة التي يرويها ماركو في كتابه قصة عبور إحدى القوافل صحراء تاكلامكان (معنى الاسم ادخل ولن تخرج) التي تقع في آسيا الوسطى، في حوض تاريم في الصين. يقول ماركو “كنا نسمع في الليل أصوات العديد من الآلات وخاصة الطبول، وظن كبار السن في القافلة أنهم يسمعون الشياطين تتكلم. وذات ليلة سمعت أنا نفسي، ثلاث مرات، ضجيجًا رهيبًا وكأن شخصا يبكي وآخر يحتضر”.



ويُضيف ماركو “هناك شيء واحد موجود هنا وهو شيء غريب جدًّا، عندما يركب رجل ليلًا عبر هذه الصحراء يحدث شيء ما يجعله يتسكع حتى يفقد الاتصال مع رفاقه، ثم تبدأ الأرواح بالحديث معه بحيث يبدون أنهم هم رفاقه. في بعض الأحيان ينادونه بالاسم، وغالبًا ما تجعله هذه الأصوات يبتعد عن مسار القافلة حتى لا يجدها مرة أخرى أبدًا. وبهذه الطريقة ضاع كثير من المسافرين وماتوا”.

يرجع الفضل لماركو بولو في وصول اختراعات إلى أوروبا كانت تعدّ آنذاك متقدمة، مثل النقود الورقية. فقد احتوى كتابه على وصف دقيق لما رآه في الصين من نقود ورقية سهلة الصرف واستخدامات الفحم المتعددة والخدمات البريدية والنظارات وغيرها من الابتكارات التي لم تكن أوروبا تعرف عنها شيئًا، حتى إن نسخة أثرية للكتاب وجدت ضمن مقتنيات المستكشف الأوروبي كريستوفر كولومبوس وفيها ملاحظات مدونة بخط يده.

عاد ماركو إلى البندقية في عام 1295، بعد سفر وترحال استمر 24 عامًا، وكان يقف على ثروة صغيرة من الياقوت والزمرد والماس جمعها في بلاط إمبراطور الصين، ولكن سرعان ما نشبت حرب بين البندقية وعدوتها اللدود جنوة، وقد شارك ماركو بولو في الحرب إلى أن سقط أسيرًا في معركة بحرية وانتهى به المطاف في السجن في جنوة.

وهناك كان بولو يسلّي الجميع بحكاياته عن السفر إلى الصين، وقد كتب رفيقه في الزنزانة روستيسيلو الكاتب الرومانسي كثيرا من قصصه وحكاياته، وهكذا صارت حكاياته كتابًا يسمى عجائب العالم.

وفي عام 1299 أمضت جنوة والبندقية معاهدة سلام أطلق بموجبها سراح بولو وعاد إلى البندقية، ثم تزوج وأنجب 3 بنات إلى أن توفي هناك عن عمر ناهز 70 عامًا في 8 يناير/كانون الثاني 1324.

وقد ظهرت بعد وفاته ترجمات لكتاب “عجائب العالم” بسرعة كبيرة، باللغات الفرنسية والألمانية والإنجليزية والكتالونية والغيلية واللاتينية. كذلك صار الكتاب في خلال قرن من نشره جزءًا من الوعي الأوروبي، وخلدت ذكرى ماركو بوصفه هو وأبيه وعمه من أوائل الأوروبيين الذين قطعوا طريق الحرير من الصين إلى البندقية ذهابًا وإيابًا.



ابن بطوطة

زار الرحالة والمؤرخ والقاضي الطنجي محمد بن بطوطة معظم أنحاء المعمورة المعروفة في زمنه خلال رحلته إلى الحج التي استمرت 27 عاما. ففي منتصف القرن الـ14 تجهز ابن بطوطة للرحلة الشاقة بعد أن كان قد طاف بأنحاء المعمورة بما في ذلك شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق وفارس والصومال والشرق الأقصى والصين والهند، واكتسب في رحلاته خبرات أفادته كثيرا في رحلته الأصعب.

ولعل شهرة الرحالة ابن بطوطة ليست إلا عنوانا على خصوبة هذا التراث الذي تعرض صفحات منه أمام المختصين وعموم الجمهور، وهو الذي أنجز ووثق واحدة من أشهر الرحلات في تاريخ البشرية، من خلال كتابه العابر للأزمنة والثقافات “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”.

فهذا الكتاب يوثق مسار رجل انطلق من طنجة شمال المغرب (1325) في رحلة إلى مكة بقصد الحج، ولم يرجع إلى المغرب إلا بعد 20 سنة.



وسافر ابن بطوطة إلى 44 دولة، في مسافة قد تكون تجاوزت رحلات أسلافه ومنهم الرحالة ماركو بولو، حسب تقرير سابق للجزيرة نت.

وتعد الرحلة في تراث “الغرب الإسلامي” ديوان علم وأدب وسجلا لتاريخ وأحداث الأمم وكتاب آثار وأخبار، إذ اضطلعت بدور رائد في كشف النقاب عن الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلدان والأقاليم.

وتنوعت فنون الرحلة في هذا المجال بين جغرافية لاكتشاف قارات العالم على غرار الشريف الإدريسي، ورحلة عامة يمثلها ابن بطوطة، وحجازية تقصد الحج وتصف البلدان التي تفضي إلى بلاد الرحالة، ورحلة علمية، ورحلة سفارية مرتبطة ببعثات الملوك والأمراء، وأخرى روحية تقود المريد إلى شيخه في إطار الطرق الصوفية كالقادرية والتيجانية والشاذلية.



administrator

اترك تعليقا