“الست مها” تكشف أثر فقدان الأمان الاجتماعي واستجداء العاطفة

ماذا يحدث حينما يفقد الإنسان هويته، أو يكاد، في مجتمع لا يحتفي إلا بالماديات؟ وكيف يتماسك رجل مرهف حساس حينما تودعه زوجته نهائيا، أو تؤذنه بأنه سيلتاع بعد رحيلها طويلا وسيفقد قدرته على إيجاد أنيسة أخرى له حتى وهو لم يبلغ بعد أرذل العمر؟

يكاد مطالع رواية “الست مها” للقاص والروائي المصري عصام عبد الحميد يراها مثالا لمعاناة كل فاقد للأمان الاجتماعي، حتى كأن بطلها حينما يحاول لملمة ذاته المبعثرة؛ يجد نفسه “يغامر بنزق فراشة تلهو حول النار”، وتبدأ المعاناة تتصاعد بعد رحيل الزوجة ولفرط الشعور بالألم لا يطلق صوت الراوي الرئيسي اسما عليها، لتصبح الحياة بعدها “تجري على عجل لا تأبه لأحد، تجرف في طريقها الحنين والمشاعر والذكريات إلى وادي النسيان”.

ورغم أنه من مواليد عام 1962 فإن المؤلف يكاد يمثل واحدا من أحدث تيار روائي داخل مصر، فهو يصر على التفرد الذي يراوغه أحيانا رغم رغبته بتطوير أدواته وتطوير النشر، مستقلا وبعيدا عن المؤسسات الحكومية.

بدأ الكاتب مسيرة إبداعية منذ عام 2008، ونشرت له 5 مجموعات قصصية، ثم بدأ مسيرة الرواية بـ”غزة – متلازمة القلب المنكسر” عام 2018، وعن نفس الدار “البشير للثقافة والعلوم” صدرت في 2020 روايته الثانية “الست مها” في 250 صفحة من القطع المتوسط بدون تقسيم لفصول.



طبقة وسطى ذائبة

غامر عبد الحميد بمحاولته إذابة معاناة بطل الرواية في بوتقة من روح الطرافة، فتعمد عبر لغة شبه شاعرية التذكير بالأديب الراحل محمد عبد الحليم عبد الله أو “شاعر الرواية” كما أطلق عليه النقاد، حيث تشابه الاثنان في محنة الفقد المبكر، وبينما غرق الأول في الأحزان؛ تعمد الآخر أن يكسو بطل روايته شبه الأوحد شيئا من روح الدعابة.

اقتباس من رواية “الست مها” للكاتب عصام عبد الحميد.. تتفقون معه ؟

وعلى خطى الروائية البريطانية شارلوت برونتي في عملها “جين آير” المنشور عام 1847 سار المؤلف، فكما أوغلت البطلة في الأحزان بحثا عن رجل يحتويها، بعد قسوة يُتْم عارم ومحاولة تيه متعمد عن الإقطاعي روتشستر واضطرارها في النهاية للزواج منه رغم فارق السن الكبير، كذلك فعل مراد بطل “الست مها” لتتفق الروايتان في أحزان البطلين وعنادهما ورغبتهما الظاهرية في الابتعاد عن حبيب يريان الاقتران به تحديا سافرا لمستقر العادات الاجتماعية وقوانين الحياة.

ورغم أرستقراطية رواية “آير” فإن عبد الحميد سار في طريق مغاير نسبيا، فبطل روايته يمثل الطبقة المتوسطة المصرية المتآكلة، ويسعى للزواج مجددا من أي وسط اجتماعي.

وقد استخدم عبد الحميد ضمير الغائب ليحكي عن بطل روايته من وجهة نظر الراوي، ومع ذلك كسر رتابة الصوت الواحد، حيث كان يتدخل أحيانا بأصوات أخرى لأشخاص فرعيين مثل سكرتيرته في عمله المرموق بالمحافظة، ورغم تسمية الرواية باسم البطلة “مها حازم النمس” طبيبة العلاج الطبيعي، إلا أن صوتها الروائي بالتعبير عن مشاعرها لم يحتل المساحة الأكبر، وإنما جاء عنوان “الست مها” متناصّا مع مسرحية الشاعر الكبير أحمد شوقي الشعرية التي أبدعها عام 1932.



وإن احتفى أمير الشعراء بسيدة بخيلة مسنة تتفنن في إذابة أعمار الرجال ووراثتهم، فإن مها كانت بخيلة بمشاعرها على أقرانها حتى سموها بـ”الشاويش” لقسوتها، لكنها تقع بغرام البطل وتذوب بشخصيته لمجرد اصطدام سيارتها به في شارع مقفر من المارة من حي راقٍ بوقت متأخر، في حين هو ماضٍ في طريقه يفكر في جملة صديقه “مراد يحتاج امرأة.. تقول له بوضوح أريدك”.

في انتظار غودو

وعبر معارك وبعد أن يغامر مراد فيدخل بيوتا في القاهرة والأقاليم خاطبا مروة، وعواطف، ونورا، بل يكاد يقع في غواية علياء؛ يعود القهقرى لـ”مها” بعد طواف كلاسيكي أقرب لمألوف حكايات العواذل والشامتين والمشفقين.

وفي رحلة السرد تتكشف بعض أمراض المجتمع وتظهر شبيهة بقصص “بريد الأهرام” للراحل عبد الوهاب مطاوع، فمن داء الهجرة للغرب وترك الحبيبة، لداء الحجر على ابنة الأخت اليتيمة ومنع زواجها احتفاظا بإرثها، حتى التطرف الديني، مرورا بجحيم الطلاق، وفي كل مرة تشتكي امرأة للبطل وكأنه “غودو” المنقذ المخلص في رائعة الأيرلندي “صمويل بيكت”؛ مسرحية “في انتظار غودو” (1949).



لكن بطل القصة يتركهن جميعا ليتزوج “مجنونة” كما سماها، محاولا نيل عاطفة مختلفة راغبة في التحرر من جحيم الاختيارات المفروضة، فليست مها بالتي تترك أحدا ليختار لها، وقد تزوج مراد “زواج الصالونات” فتعب وأتعب.

معاناة وتجديد

جاء الالتفات الأسلوبي في فقرة “سار كثيرا في الشارع بغير هدى ولا تفكير، كيف يحتمل قلبه كل هذا الوجع المفاجئ، ألا تأتي مها مرة أخرى بسيارتها لتدهسني وأموت، أو حتى تذهب ذاكرتي بلا عودة، رن هاتفه كثيرا”؛ دالا على حس إنساني عميق لدى الكاتب يتمنى لو ذاب في القصة، أو ذابت بعض أحداثها التي عايشها في نفسه.

ورغم محاولته التجديد اللغوي من قبيل تسمية الأصدقاء بـ”شلة الكراكيب” مقابل “حرافيش نجيب محفوظ”، وتعبيرات من مثل “صينية عليها فواكه مرصوصة بعناية دافئة”، “كانت تتحدث ببرودة شتاء لا يأبه للعرايا”، فإن الكاتب لم يوفق دائما في اختيار مناطق سرد وتعبيرات أخرى، فسقط -ربما- في فخ تلبس كُتَّاب آخرين.

وعانى الكاتب إبداعيا، فابتعد عن كل ما يخص زمان تخضع له الرواية، لتجيء مطلقة الأحداث لولا إشارة عابرة لغلاء الأسعار وتغير الأحوال، وكذلك عانى أكثر لدفع الذاتية عن العمل، حتى إنه كتب في الإهداء “إلى القراء الأعزاء: لا تظن أنك خارج الصورة، ابحث عن نفسك جيدا، ربما تجدها”. ومع الالتفات اللفظي الغريب هنا من القراء للحديث إلى قارئ واحد، كشف المؤلف عما أراد أن يستره، فكان الإهداء أضعف مناطق الرواية، وإن كان أثبت خفية أن المجتمع المحيط بالكاتب يعابثه فلا يجد حلا لعقلنته سوى المزيد من الجنون.



administrator

اترك تعليقا