التشكيلي الأردني محمد الجالوس: العمل الفني لا يقدم الحقيقة كما يتوقعها المشاهد بل يدفعه للتأمل

عمّان- محمد الجالوس (62 عاما) فنان تشكيلي درس في معهد الفنون الجميلة، كما درس إدارة الأعمال بالجامعة الأردنية، وهو عضو رابطة الفنانين والرابطة الدولية للفنون الجميلة التشكيلية، وله مقتنيات تعرض في 9 متاحف ومؤسسات أردنية وعربية.

في بداية مشواره كانت له صولات في مجال النقد الفني وكتابة القصة القصيرة أكسبته ثقافة متنوعة، ومن أعماله “ذاكرة رصيف” و”أصابع مليحة” و”بيوت من السلط” و”وجوه من الداخل.. دراسة نقدية ولوحات فنية”.

وأنتج كذلك فيلما وثائقيا للمخرجة سوسن دروزة بعنوان “هؤلاء الآخرون”، وأقام 27 معرضا شخصيا، وشارك في معارض دولية بينها مهرجان موسكرون الدولي للفنون الجميلة التشكيلية (بلجيكا 1969).

عاش فترة من حياته في الولايات المتحدة، زار خلالها متاحفها ومعارضها، واحتك بفنانين من مدارس متنوعة؛ ممّا شكل لدية خبرة عملية ومعرفية انعكست في تجربته المتفردة، وهناك كتب قصة قصيرة بعنوان “صب واي”، يصف فيها خواطره وهو ينتظر قطار الليل، ورسم لوحة على أنغام الأغنية الفلسطينية “ظريف الطول” للفلسطيني إبراهيم صبيح بعنوان “مزاج مكسيكي” لعازفين على الغيتار وفتيات بفساتين ملونة.

المتأمل في لوحاته -التي تزين جدران مرسمه في حي الشميساني (وسط عمان)- يلمس من دون عناء أنها مفعمة بالجمال، وأنه فنان لا يرسم ما يراه بل ما يفهمه، وأن لديه قدرة فنية خاصة في مغازلة الريشة وهي تحاور الألوان وتصوغ خياله مطواعة كقطعة الإسفنج.

وفي حديثه للجزيرة نت، قال محمد الجالوس إنه يسخّر ريشته وتجربته ومشروعه الفني للناس والمجتمع، “وإلا لمن أرسم، هل أخزن لوحاتي في مرسمي أم أعرضها، فأنا لست منغلقا ولا أرسم لذاتي”.



ويضيف أن الفن التشكيلي لا يقدم الحقيقة لرواده كما يتوقعونها، بل يدفعهم لاكتشافها من خلال استثارة خيالهم وتحفيز وجدانهم وامتحان ثقافتهم ومرجعياتهم. ويؤكد أن “العمل الفني شحنة معرفية”، وأن حضارتنا العربية غنية وعميقة ومؤثرة.

ويشير إلى أنه يرسم المدن التي يعشقها ويقع في غرامها، ويعترف بأنه وجد بحارة الياسمينة في نابلس ضالته، ويصفها بأنها “منطقة آمنة بسكانها وترابطهم”، وأنها اليوم “أصبحت مأوى عشاق الأرض ومسرى للشهداء وقبلة لشرارة الحرية”، وأعرب عن سعادته بفوزه بجائزة فلسطين للفنون 2022 لأنها تحمل اسم البلد المجروح الذي يحبه.

**من-أعمال الفنان الجالوس** للاستخدام الداخلي فقط
من أعمال الفنان محمد الجالوس

الفنون ونبض الناس

  • يتوجه الفن التشكيلي للنخبة، ويوصف بالغموض، فكيف يمكن تبسيطه ليستوعبه الجميع؟

الثقافة بكافة منتجاتها -سواء الموسيقى أو الفن التشكيلي أو غيرهما- بحاجة لقدر من المعرفة أو الثقافة لكي تُستقبل بفهم واسع وجيد، ومن وظيفة الفنون الاقتراب إلى حد كبير من نبض المشاهدين، وهذا يعتمد على قدرة الفنان على أن يقبض على اللحظة المناسبة لإرسال رسائله.

هناك نوعان من الفنون التشكيلية: الأول هو الطبيعي الواضح الذي يجسد فيه الفنان المشهد الواقعي ويرسمه، وهو الأكثر قبولا لدى الناس ويتلقونه بسهولة ويسر، ويمكن توجيهه لكافة المستويات الثقافية والفكرية وحتى الاجتماعية.



والثاني يدور حول ولوج مدارس جديدة في الفن الحديث منذ مطلع القرن العشرين، حيث ابتعدت قليلا عن المشهد الطبيعي المباشر، الذي يمكن استيعابه في لحظة واحدة، وبمجرد النظر للوحة يمكن التقاط ما فيها من عناصر وأشكال.

لكن مدارس فنية أخرى كالتجريبية والسريالية والتعبيرية وغيرها تحاول أن تجتهد وراء المشهد الواقعي أو الطبيعي وتأوله، ولا أزعم أنه يمكن استقبال نتاج الفنان فيها بسهولة إذا لم يكن المتلقي مسلحا بقدر من المعرفة أو الثقافة.

لذلك تحتاج الفنون المعاصرة إلى عين مدربة، لأن فيها إمكانية إطلاق خيال واسع عند المشاهد، ليس كل الناس يتذوقون مثلا السمفونية أو الأوبرا أو الفنون المعاصرة، وهناك أسئلة كثيرة تثار حول اللوحة التجريدية المعاصرة، مثل ما يتعلق بالتأويل والاجتهاد، وكل فنان يعبر بثقافته وأسلوبه وطريقته الخاصة.

لوحة-مقدسية
لوحة مقدسية لمحمد الجالوس

مدن وقعت في غرامها

  • بريشتك وألوانك وثّقت حكايات الحارات في 5 مدن عربية، فماذا اكتشفت من ذكريات المكان وسكانه؟

مسيرتي التشكيلية مختلفة قليلا، فأنا أذهب للمدن التي أحبها، وخلال 40 عاما وقعت في غرام بعض المدن فاستوحيتها ورسمتها كمحبة شخصية ورغبة ذاتية في العودة للمرئي.

تجربتي تتجه للفن المعاصر أكثر وأغرق في التجريد طويلا، لكنني أحب بين فترة وأخرى العودة للمشهد الطبيعي لمدن أحبها لكي تستعيد عيناي مشاهد الطبيعة، وأستعيد أيضا رغبتي وإمكاناتي كرسام.

أذهب كل 5 سنوات إلى مدينة، آخرها مدينة الأقصر، وسحر البر الغربي الذي أقمت للوحاته معرضا في غاليري بيكاسو بالقاهرة. ولاقت هذه اللوحات استحسانا من النقاد والجمهور المصري، كما رسمت مدن السلط ونابلس والقدس والفحيص الأردنية.

في حارة الياسمينة وجدت ضالتي

  • حارة الياسمينة في نابلس بؤرة مقاومة، هل فككت رموز وحكايات حجارتها؟

مدينة نابلس واحدة من المدن التي أذهلتني بنمطها المعماري، وفي حارة الياسمينة هناك بنية اجتماعية متراصة تشبه السرداب المغلق؛ عندما تدخل إلى الحارة تشعر بمنطقة آمنة بسكانها وعلاقاتهم.

وأنا أرسم استُقبلت بحفاوة كبيرة من أهل الحارة، وكان الكل يريد استضافتي ودعوتي لشرب المشروبات الساخنة والتحدث معي.

الخصوصية التي وجدتها في مدينة نابلس، وتحديدا في حارة الياسمينة لم أجدها إلا في مدينة تشببها معماريا وبنية طوبوغرافية، وهي مدينة السلط الأردنية التي سبق أن رسمتها عام 1997 وأقمت لها معرضا في عمّان.



هناك روابط كبيرة وواسعة بين من يسكن مدينة نابلس ومن يسكن مدينة السلط، وتقارب في البنية المعمارية كأن البيوت التي رسمتها في حارة الياسمينة قد شاهدتها من قبل بمدينة السلط.

العمل الفني شحنة معرفية

  • الفن التشكيلي فن الحاضر، يعبر عن قضايا اجتماعية أو يبرز حوارا ثقافيا أو هوية المكان.. ماذا عن مشروعك الإبداعي بهذا الخصوص؟

أود القول إن العمل الفني يحمل شحنة وكما من المعرفة يأتيان من التعبير المباشر، وهناك معرفة أخرى تعكس ثقافة الفنان عندما يعبر عن مشهد ولا يكون هذا التعبير واقعيا بمعنى مباشر سهل. العمل التجريبي الذي يقدمه الفنان بشكل عام فيه حرفة ومعرفة بصرية وثقافية يحيله المشاهد إلى مشاهد طبيعية ورموز.

ويبقى السؤال: ما الذي تعنيه باللوحة؟ وفي تصوري أن العمل التجريبي بما ينطوي عليه من شحنة معرفية لا يقدم منتجا مباشرا وسهلا للمتلقي، بل يحث خياله ووجدانه على الاستمتاع بالعنوان والعلاقات التي نسجها الفنان، ويصبح السؤال: هل اللوحة نقلت شحنة إنسانية أو عاطفية أو بصرية تحث الإنسان على التفكير وإطلاق الخيال أم لا؟

وأرى أن الأعمال الفنية كالموسيقى والمسرح والفن التشكيلي التي تطلق الخيال وتحاول أن تحلق بالمتلقي أكثر من الأعمال التي يتلقاها الناس وينسونها بعد فترة.



العمل الفني لا يقدم الحقيقة

  • الفنان الإسباني بابلو بيكاسو يقول إن الفن التشكيلي ليس الحقيقة، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة.. كيف ترى ذلك؟

هذا ما ذكرته قبل قليل حول العمل المعاصر؛ فالتشكيلي الإسباني بيكاسو صاحب المدرسة التكعيبية دقيق في ما قال، لأن العمل الفني لا يقدم الحقيقة كما يتوقعها المشاهد، بل يدفعه لاكتشاف الحقيقة من خلال استثارة خياله وتحفيز وجدانه، والشحنة العاطفية التي ينقلها الفنان تنتقل للمشاهد عبر المشهد الفني، وبالتالي يقبض على حقيقته الخاصة؛ لأن كل عمل فني معاصر يفهم حسب مرجعيات وثقافات المتلقي، ومن هنا لكل مشاهد حقيقة خاصة لها علاقة بثقافته ومعرفته.

حضارتنا غنية واللوحة الحروفية عربية

  • الفن عموما من مكونات أي حضارة.. من وجهة نظرك أين الفن التشكيلي في حضارتنا العربية؟ أم هو دخيل عليها؟

حضارتنا العربية عميقة وضاربة في التاريخ، ولها تأثير على العالم المحيط وفي حضارات أخرى لأنها حضارة غنية ومتنوعة من الفلسفة والشعر وحتى السرد. وبشكل عام هذه الحضارة تأثرت وأثرت.

وشخصيا أعد نفسي ابن هذا المجتمع وحضارته، وبالتالي ما درسته وما قرأته وما اكتسبته من قراءاتي ومتابعاتي نقل لي قسطا من حضارتنا، وكلما كان الفنان مطلعا أكثر كان أعمق في التعبير ونقل حضارته بالشكل الفني الذي يعمق المعرفة بها.

وهناك نقطة يجب الإشارة لها، وهي أننا نحن العرب لسنا أصحاب اللوحة سوى فترة من فترات الحكم العباسي التي احتوت منمنمات إسلامية، ورسم مصور لأعمال فردية رائدها يحيى بن محمود الواسطي، أحد أهم مؤسسي مدرسة بغداد للتصوير وغيره.

ولا يوجد لدينا تاريخ في اللوحة المسندية المتعارف عليها الآن، نحن نقلناها من الغرب عبر اطلاعنا على تجربته وأجدنا فيها وطوّرناها، والآن الفن العربي معروف عالميا، وكان فنانو الفترة العباسية وما بعدها تعبيريين وتجريديين، كما هي حال “اللوحة الحروفية” التجريدية الخالصة. ربما كنّا الأسبق في العالم، لذلك رأى فنانون غربيون أن الفن التجريدي ربما بدأ في البلاد العربية.



  • يقال إن الفن العظيم هو الأسهل للناس والأصعب على الفنان .. كيف ترى ذلك؟

من وجهة نظري ليس هناك فن سهل وآخر صعب، هناك عمل فني مكتمل الشروط يقدم للناس الذين يستقبلونه بالشروط المكتملة وبفرح أكبر، سواء أكان واقعيا أم تجريديا أم منتميا لأية مدرسة فنية، لأن كل مدرسة لها جمالياتها وإمكاناتها الخاصة.

**المكان بريشة الجالوس** للاستخدام الداخلي فقط
لوحة “المكان” بريشة محمد الجالوس


لا خيار أمام الفنان

  • المتابع لمعارض الفن التشكيلي لا يشهد إقبالا، لدرجة أن إقامة معرض أصبحت مغامرة خاسرة؟

لا خيار للفنان سوى الاستمرار في عمله الفني، والقضية تراكمية لها علاقة بالتواصل بين منتج العمل ومستقبله. خيار أن يتوقف الفنان بذريعة غياب الجمهور خيار خاسر، والأصح هو تراكم البناء المعرفي والجمالي عند الجمهور، فقديما لم يكن العمل الفني المعاصر مستقبلا بشكل جيد، والآن ونتيجة تراكم المعارف والثقافة أصبحت هناك مساحة من القبول للفنون المعاصرة.

نحن نعاني كرسامين من قلة الجمهور المتابع لأعمالنا الفنية، ولدينا رهان أنه قادر على أن يتطور، ومن وجهة نظري هذه مسؤوليتنا كفنانين في خلق جمهور ابتداء من التربية الفنية في المدارس.

كما أن التذوق الفني يبدأ بناؤه في حصص التربية الفنية، فإذا كانت هناك تربية فنية صحيحة نستطيع تأسيس جمهور لاستقبال أعمال الفنانين.

وأقولها بوضوح وشجاعة: إن غياب النقد الذي يلقي إضاءات على الأعمال الفنية أسهم أيضا في تغيب الرواد أو عشاق اقتناء اللوحات الفنية.

لوحة-عمّانية-يظهر-فيها-المدرج-الروماني
لوحة يظهر فيها المدرج الروماني الشهير بالعاصمة الأردنية

أصحاب الصالات يفرضون ذائقتهم

  • للتشكيليين همومهم الخاصة.. هل ترى العلاقة مع أصحاب صالات العرض طبيعية أو هناك ضغوط تجارية؟

الفن التشكيلي العربي ليس بخير لوجود عثرات، منها ما يتعلق بالفنانين أنفسهم و”بالشللية الفنية”، وهذه موجودة في جميع أنحاء العالم، لكنها في وطننا العربي على نطاق أوسع، إضافة إلى ضغوط تمارس من قاعات العرض.

سلطات الصالات جائرة ومدمرة أحيانا لأن القائمين عليها أو مالكيها يحبون توجيه الفنان لذائقتهم الخاصة التي قد لا تكون التي نسعى لتعميمها على رواد الفن التشكيلي. أصحاب القاعات يفرضون ذائقتهم، لذلك هناك زملاء كبارا لا يستطيعون الوصول لصالات العرض رغم قدراتهم الكبيرة، والحل الأمثل هو أن توفر الوزارات المعنية صالات عامة بعيدا عن الربح التجاري.

  • لكل فنان بصمة خلال مشواره الإبداعي.. ماذا تركت للأجيال المقبلة؟

هذا السؤال يحدده من يستقبل أعمالي كالنقاد والجمهور وقاعات العرض والمتاحف، فهم من يقررون هل لي بصمة خاصة أو لا. لكن أستطيع القول إنني أملك بحثا بين النحت والرسم، أعدّه خاصا وحصيلة تجارب استمرت 40 سنة، وأنا مرتاح لها جزئيا وليس كليا؛ فاللوحة التي كنت أبحث عنها أمسكت بمفاتيحها وخيوطها الآن، لذلك هناك من يقول إن هذا المزج بين النحت والرسم يميز تجربتي، ومنهم الناقد اللبناني أسعد عرابي. من يحدد البصمة هو المتلقي وليس الفنان.