- اسواق العرب, الجاهلية, حباشة, فريق علمي, موقع
- 0 Comments
- 764 Views
شكّل تحديد موقع سوق حباشة التاريخي، أحد أهم أسواق العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، تحديا كبيرا ومثار خلافات بين الخبراء والباحثين استمر لسنوات عديدة حتى استطاع فريق بحثي سعودي متخصص من تحديد موقع السوق بعد دراسات بحثية وميدانية وآثارية استغرقت قرابة عام ونصف العام.
ويعد سوق حباشة أحد المعالم الأثرية في السيرة النبوية، ومن أبرزها في الجاهلية، حيث تشير الروايات التاريخية إلى أن الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) تاجر فيه بيعًا وشراء لصالح السيدة خديجة (رضي الله عنها) قبل البعثة النبوية.
وبشأن ذلك أورد ياقوت الحموي صاحب (معجم البلدان) في معرض نصه عن حباشة ما يفيد بوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه السوق، مستندا بما ذكره عبد الرزاق عن عمر عن الزهري قال: (لما استوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ أشده، وليس له كثير من المال استأجرته خديجة على سوق حباشة، وهو سوق بتهامة، واستأجرت معه رجلاً من قريش).
وظل موقع سوق حباشة التاريخي مجهولا في ظل اختلاف وتباين الآراء حول وقوعه بمحافظة العرضيات التابعة لمكة المكرمة أو محافظة بارق التابعة لمنطقة عسير بحسب البعض، أو أن “سوق بني عيسى” الشعبي بمركز “سبت الجارة” الذي لم يعرف تاريخ نشأته التي مر عليها مئات السنين قد يكون هو سوق حباشة، حسب بعض الروايات.
كما ذكرت بعض الروايات الأخرى أن سوق “حباشة” يقع في صدور “وادي قنونا” على على بُعد نحو 480 كيلومترا من مكة المكرمة إلى “سوق بني عيسى” بسبت الجارة أحد أكبر أسواق تهامة حاليا.
زيارات ميدانية وبحث أثري
وفي محاولة لحسم الجدل والاختلاف حول الموقع الدقيق للسوق، أطلقت دارة الملك عبد العزيز، وهي مؤسسة متخصصة في خدمة تاريخ وجغرافيا وآداب وتراث السعودية، وبالتعاون مع وزارة الثقافة وهيئة التراث السعودية، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، فريقا من العلماء والباحثين بهدف تحديد الموقع الدقيق لسوق حباشة والواقع بمنطقة “تهامة” غرب الجزيرة العربية.
وقام الفريق البحثي السعودي، عبر زيارات ميدانية، بالوقوف على عدد من المواقع التي يحتمل وجود ذلك السوق التاريخي فيها، بناء على الآراء المعتمدة على المصادر التاريخية، والمعالم الأثرية، وجرى توثيق تلك الأماكن بالتصوير الفوتوغرافي والجوي، تمهيدا لإجراء دراسة علمية لحسم مسألة موقع السوق.
وبعد عام ونصف العام من الدراسة البحثية والميدانية، وتدقيق المصادر، والمسح الأثري، وبعد النقاش العلمي مع أصحاب الآراء بشأن موقع السوق، تمكن فريق البحث السعودي من التوصل إلى تحديد موقع سوق حباشة التاريخي على الضفة الجنوبية لوادي “قَنُوْنَا”.
ويتوسط السوق سهلا فيضيا متسعا، تحده من جهة الشرق جبال “الدُرْبَة”، ومن جهة الغرب جبال “العِرْمِ” بمسافةٍ تمتد نحو 5 كيلومترات، ويحده من جهة الجنوب جبل “أمِّ الرِّمْثِ” وما على سمته من السهل الفيضي، في منطقة متسعة سهلة تتوافر فيها مصادر المياه والغطاء الرعوي، كما يمرُّ بموقع السوق طريق “الجَنَد”، وهو من أهم المعالم في تحديد موقع السوق.
وبحسب وكالة الأنباء السعودية، فإن سوق حباشة امتد تاريخه من العصرِ الجاهلي إلى العصر الإسلامي، وكان يقام كلّ سنة لمدة 8 أيام في أول شهر رجب، وظل قائما كل عام حتى سنة 197 للهجرة.
وذكرت الوكالة أن السوق يمثل أوجه النشاط الاقتصادي والأدبي والثقافي متكاملاً مع سوق “عكاظ” التاريخي، الذي أعيد إحياؤه وأصبح فعالية ثقافية بارزة في السعودية، بما يمكن الاستفادة منه في المجالات العلمية، والثقافية، والسياحية.
موقع متميز
والسوق التاريخي زارته شخصيات تاريخية شهيرة كالصحابي الجليل حكيم بن حزام وملك العرب قديما مضاض الجرهمي والشاعر الجاهلي صاحب لامية العرب الشنفرى وغيرهم.
وقد سميت السوق بحباشة لأنها كانت تضم بين جنباتها حين قيامها أخلاطا شتى ممن كان يهبط إليها قديما من مختلف القبائل للمتاجرة أو التحاكم وفض النزاعات وفداء الأسرى أو غير ذلك من الأغراض التي كانت تقوم بأسبابها الأسواق العربية الموسمية الكبيرة.
وأهم ما يتميز به سوق “حباشة” هو موقعه على أهم طرق التجارة القديمة من اليمن إلى مكة ثم الشام، ويشتهر بتجارة الذهب والرصاص وكحل الأثمد، بالإضافة إلى الحبوب والتمر والجلود، وكان كباقي أسواق العرب محطة تجارية مهمة، ومكانا آمنا تستقر فيه القوافل التجارية.
وإلى يومنا هذا، لا يزال السوق يحتوي على بعض المعالم الأثرية الشاهدة على حقبة ومحطة تجارية عرفها العرب في الجاهلية والإسلام، كقبور المشركين التي تتجمع عليها أكوام الحصى والنقوش الأثرية على الحجارة وبقايا الرحى التي كانت تستخدم في طحن الذهب.
وقد اندثر السوق عام 197 للهجرة بسبب أن من عادة ولاة مكة أن يرسلوا جنودا في كل عام لحماية السوق، فثار أهل السوق عليهم فقتلوهم، فاستشار والي مكة فقهاء مكة فأشاروا عليه بهدمه فبعث بجند فقتلوا في السوق مقتلة عظيمة ودفن في مهده إلى وقتنا الحالي، بحسب العديد من الروايات التاريخية.
وفي هذا الصدد، أورد الأزرقي في كتابه “أخبار مكة” عن سوق حباشة ما نصه “حباشة سوق الأزد، وهي في ديار الأوصام من بارق من صدر قنونا وحلي من ناحية اليمن، وهي من مكة على 6 ليال، وهي آخر سوق خربت من أسواق الجاهلية وكان والى مكة يستعمل عليها رجلا يخرج معه بجند فيقيمون بها 3 أيام من أول رجب متتالية حتى قتلت الأزد واليا عليها من قبيلة غنى بعثه داود بن عيسى بن موسى في سنة 197هـ، فأشار فقهاء مكة على داود بن عيسى بتخريبها وتركت إلى اليوم وإنما ترك ذكر حباشة مع هذه الأسواق، لأنها لم تكن في مواسم الحج ولا في أشهره وإنما كانت في رجب”.
وتعليقا على نجاح الفريق البحثي السعودي في التوصل إلى تحديد موقع سوق “حباشة” التاريخي، يقول الباحث في التراث الإسلامي والسعودي بندر الزهراني إن الاحتكام إلى العلم كان هو الطريق الصحيح والوحيد للوصول إلى موقع آخر أسواق العرب في الجاهلية.
وأشاد الزهراني، في تصريح للجزيرة نت، بقيام دارة الملك عبد العزيز وتعاونها مع وزارة الثقافة وهيئة التراث، من أجل تكليف فريق علمي يعمل على التوصل وتحديد موقع سوق “حباشة”، مضيفا أن هذا الفريق تمكن من وضع الأسس الصحيحة التي قادت في النهاية إلى الموقع الدقيق لسوق “حباشة” التاريخي.
واعتبر الباحث السعودي أن المحاولات المختلفة التي جرت في السابق لتحديد موقع السوق رغم أنها لم تحسم الأمر بشكل نهائي فقد كان لها دور في دعم جهود الفريق البحثي إلى جانب المصادر والروايات التاريخية.
ويشير الزهراني إلى أن تحديد موقع سوق حباشة بشكل علمي سيدعم أي مجهودات جديدة لتطوير هذا السوق الأثري وإعادة إحيائه مما يجعلها تتم بشكل صحيح، متوقعا أن تشهد الفترة المقبلة خطوات جادة لتطوير العديد من المواقع التاريخية والدينية التي تزخر بها المملكة.