- التفرقة, المؤرخ والباحث, خطورة مغالطات, مواقع التواصل
- 0 Comments
- 661 Views
كل عام يعقد معرض القاهرة الدولي للكتاب مجموعة من الفعاليات، وغالبا ما تترك واحدة من هذه الفعاليات والندوات وراءها الكثير من ردود الأفعال، وعقدت نهاية أيام المعرض ندوة “الحقائق العلمية في مواجهة المغالطات التاريخية في وسائل الإعلام” بمشاركة أكاديميين ومؤرخين مصريين.
وكانت الندوة من السخونة التي جعلتها تدين سياسات الدولة التربوية والإعلامية في مواجهة محاولات البعض النيل من هوية الدولة وذاكرتها الوطنية، بالاستهانة بمناهج تدريس التاريخ في المدارس والجامعات، وفتح الباب على مصراعيه للهواة من المؤرخين للخروج على الجماهير من خلال القنوات الفضائية والصحف، مما اعتبر تشويها للتاريخ وعلومه.
التشويه، بحسب وصف متحدثين بالندوة، بدأ بالزعم أن بناة الأهرام هم “الذين هبطوا من السماء” ونقد حروب صلاح الدين الأيوبي ضد الغزو الصليبي لدرجة وصفه في برنامج تلفزيوني بأنه “واحد من أحقر الشخصيات في التاريخ” ومرورا بوصف ثورة يوليو 1952 بأنها من صنع الأميركان، وانتهاء بوصف حروب مصر والعرب مع إسرائيل أنها “حروب هزائم” بما في ذلك حربا الاستنزاف وحرب أكتوبر 1973.
شارك في الندوة كل من الدكتور جمال معوض شقرة أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية التربية جامعة عين شمس، الدكتور خلف عبد العظيم الميري أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر كلية البنات جامعة عين شمس، الدكتور عاصم الدسوقى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر كلية الآداب جامعة حلوان، الدكتورة هالة محمود محمد خلف أستاذ التاريخ القديم كلية التربية جامعة عين شمس، وأدارها رئيس الجمعية المصرية للدراسات التاريخية الدكتور أيمن فؤاد.
التاريخ بين السياسة والدين والدراما
وافتتح الدكتور الدسوقي حديثه عن النتائج الوخيمة المترتبة على اقتحام وسائل التواصل الاجتماعي من “الهواة وأصحاب المصالح من الدول والأفراد” لفتح صفحات للكتابة في التاريخ، وقال إنه “ترك التاريخ لأصحاب المآرب والدساسين ليدسوا السم في قلب العسل”.
وأضاف “التاريخ علم مستقل عن السياسة والدين، والذي يوظف معلومات تاريخية لخدمة فكرة سياسية معينة وخدمة عقيدة يفتقد الموضوعية، والتاريخ دراسة موضوعية بمعنى أن تعطي أهمية للظروف المصاحبة للحدث التي تكتب عنه ولا تسقط منه حادثة معينة، وإلا تحولت إلى كاتب دراما، ومشكلة كاتب الدراما أنه يدخل للحادثة أو الشخصية بفكرة مسبقة، وينتقي من المراجع ما يخدم فكرته، ويسقط من المعلومات ما لا يخدم الفكرة”.
وقال الدسوقي “يعتبر عبد الرحمن الرافعي آخر المؤرخين بعد الجبرتي الذي كتب يومياته حسب الأحداث، ويجب أن نفرق ما بين المؤرخ والباحث في التاريخ، المؤرخ دوره تحقيق الوقائع وليس الحكم عليها، فليس من الصحيح أن نقول: ثورة يوليو المجيدة، وكذلك الشخص لا نحكم عليه بأنه بطل أو خائن، بل نترك المعلومات هي التي تحكم عليه”.
مواقع التواصل بقفص الاتهام
وطالبت الدكتورة هالة بضرورة “حماية التاريخ من الكتابات المغلوطة وغير المسؤولة، ومن هذا الكم الهائل من المقاطع والفيديوهات والصفحات والمواقع التي تحمل الكثير من الغث القليل من الثمين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي صفحات ومواقع تحمل كثيرا من الافتراءات والمغالطات عن تاريخنا”.
وعددت المحاضرة عددا من تلك المغالطات في التاريخ الفرعوني القديم، ووصفتها بالمغالطات المقصودة من ناس يعلمون كل شيء عن الآثار والتاريخ الفرعوني، ووجدنا صفحات كثيرة ومنتشرة تقول مثلا “التماثيل الشاهقة تعود لعصر العماليق، ويقولون أيضا إنها تنسب لقوم عاد وثمود، حيث كانت لهم مقومات جسمانية خاصة”.
وحذرت الدكتورة هالة من أن الأجيال الجديدة لا تعرف القراءة، وأن “الموبايل أصبح أداة البحث في عصرنا، وأصبحت المادة العلمية من خلال الموبايل، وإذا طلبت من الطالب المعلومة سيدخل على الموبايل ويجمع المعلومات، وبفحصها أجد معظمها معلومات مشوهة”.
وضربت مثالا بما أسمته الافتراءات والأساطير التي مازالت تكتب حول بناء وتشييد الأهرام، والزعم بأنها بنيت بالقوة السحرية الموجودة لدى المصري القديم، وغيرها من الأساطير، وأكدت أن “المؤرخ المصري القديم كان حريصا على كتابة الأحداث باليوم وتسجيلها بشكل لا يستطيع أحد ما تزويره عبر نقشه على الأحجار”.
وأضافت الدكتورة هالة “الحقيقة جاءت مع بردية اكتشفت حديثا مسجل بها كل الأرقام وكيفية البناء، وكيف كانوا يبنون ويخططون، وبينت هذه الوثيقة أن الفكر الهندسي الذي بنيت بها الأهرامات سار بتطور هندسي يقبله العقل”.
المؤرخ “الفيسبوكي”
من جانبه، ذكر الدكتور الميري أن المغالطات في التاريخ تتسع لكي تؤثر على الهوية وذاكرة وميراث الأمة، وقال إننا في حاجة إلى وقفة مع النفس لمواجهة ما يحدث على مواقع وصفحات التواصل، وهو ما يدخلنا في مجال الهواية والاحتراف.
وتابع “نحن نعاني من بعد تشكيكي وبعد تفكيكي، بقصد ضرب الهوية على المدى البعيد، وما يقال عن الحضارة المصرية القديمة أن من بناها هم الأفارقة، أو غيرهم، كل هذا يدور في الإطار التشكيكي، أما الإطار التفكيكي فأصبح يستخدم في الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي بمعنى التجزئة داخل الوسط ذاته”.
المذكرات السياسية “كاذبة”
وأما كتاب المذكرات وما يطلقون على أنفسهم هالة من العظمة فليسوا مؤرخين، وليسوا باحثي تاريخ، بل ينتهي دورهم ليأتي باحث التاريخ أو المؤرخ يضعه على مائدة البحث ليخرج منه ما يساعده على فهم التاريخ وكتابته، بحسب الدكتور الميري.
ومن جانب آخر قال الدكتور الدسوقي “المذكرات السياسية تعد أحد المصادر، إذا كان صاحبها لا يكتبها للنشر، كما في مذكرات سعد زغلول، عندما قال عن نفسه (إنه) كان يشرب الخمر، وقال لقد تمكن مني الداء، وقلب حياتي، كان الزعيم سعد يكتب لينفس عن نفسه، وليس للنشر، أو أنه كان يكتب الحقيقة للتاريخ لما بعد حياته، أما المذكرات التي يكتبها أصحابها لنشرها ليتهموا الآخرين ويبرؤوا أنفسهم، هذه المذكرات تشبه أغنية عبد الحليم حافظ: حلو وكداب”.
واعتبر الدكتور شقرة أن مذكرات السياسيين ليست تاريخا، لما فيها من مبالغات وتبريرات ومغالطات كبيرة جدا، وعلى المؤرخ أن يأخذها كمصدر، وليست كل الحقائق، ومن العيب أن يأتي مؤرخ ليكتب عن مذكرات اللواء محمد نجيب ويعتبرها تاريخ، لأنه ثبت بعد ذلك، أن اللواء نجيب نفسه لم يكتب هذه المذكرات، بل هناك من كتبوها له.
وأضاف الدكتور شقرة “اللواء محمد نجيب اعترف لي بأن هناك أشياء في المذكرات لم يذكرها ولم يقرها، وسألته هل حقيقة أن الضباط هم الذين قتلوا ابنك علي في ألمانيا؟ فضحك وقال: هذه مبالغات، والضباط لا شأن لهم بها”.
وقال المحاضر: هناك جريمة ترتكب عن قصد أو غير قصد ضد ذاكرة الأمة وتشويهها، وهناك هجوم على هويتنا العربية والاسلامية، مطالبا بضرورة تجريم الذين يزيفون التاريخ، وتابع “إذا كان الطبيب الذي يرتكب خطأ طبيا يودي بحياة شخص واحد، فإن المدعي بالتاريخ يقضي على ذاكرة وتاريخ أمة بالكامل، ولابد من سن تشريع يجرم من يزيف التاريخ”.
واعتبر أن “أكاذيب كثيرة” قالها الرئيس السادات نفسه عن تنظيم الضباط الأحرار، ثم ناقض نفسه بنفسه فيما بين كتابي “يا ولدي هذا عمك جمال ” ثم “البحث عن الذات ” بحسب تعبير الأكاديمي المصري الذي نفى بشدة أيضا صحة ما ذهب إليه الكاتب الصحفي جلال كشك في كتابه الشهير “ثورة يوليو الأميركية”.
الحكواتية
وعن الحكواتية، وهم كثر في تاريخنا، كما يقول الدكتور شقرة، فإن “منهم من خرج ليشوه صورة القائد الإسلامي صلاح الدين، ورددت عليه أنا والدكتور أيمن فؤاد سيد، ثم هاجم الزعيم أحمد عرابي وقال إن ثورة عرابي كانت مسرحية، ثم يأتي ليشوه تاريخ حرب الاستنزاف، في نفس الوقت الذي اعترف فيه الإسرائيليون بحقيقة الخسائر التي منيوا بها في هذه الحرب”.
وعن كيفية الرد على مزوري التاريخ اعتبر الدكتور شقرة أن هناك تجارة بالتاريخ، وخاصة في ظل ما يسمى “التريند”. وهناك مرشد سياحي يقوم بقراءة للوقائع ثم يقوم بتركيبها بشكل خاطئ ولغرض في نفس يعقوب، مستنكرا أن يكون لهم منصات ويحصدون “اللايكات” و”الترندات” على حساب الحقيقة والتاريخ، بحسب تعبيره.
وينهي المحاضر حديثه قائلا “لابد من آليات جديدة نشرح ونبين لأبنائنا ماذا يعني اهتمامنا بالتاريخ”.