نابلس- “استدعينا عبر نداء (الفريق المتخصص بإنعاش القلب) إلى طوارئ المشفى، وكنت وزميلي إلياس الأشقر أول الواصلين لإسعاف المصابين، وبينهم اثنان توقف قلبهما واستشهد أحدهما. حاولنا -رفقة الطبيب الجرّاح- إنعاش قلب المصاب الآخر، لكن سرعان ما أعلن استشهاده أيضا، لحظتها نظرنا لوجه الشهيد، فكانت الصدمة، إنه والد إلياس”.
بهذه الكلمات لخّص أحمد أسود، وهو ممرض العناية الحثيثة ورعاية القلب بمشفى النجاح الجامعي بمدينة نابلس، لحظة استشهاد والد زميله بالعمل إلياس الأشقر، وقال إنهم ظلوا نحو 40 دقيقة يحاولون إنعاش قلبه من دون أن يعرفوا من هو “وكان إلياس يشاركنا العمل ويبذل كل ما في وسعه لإنقاذه”.
والأشقر واحد من 11 شهيدا قُتلوا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي التي اقتحمت مدينة نابلس شمال الضفة الغربية صباح أمس الأربعاء، واغتالت المقاومَين حسام اسليم ومحمد الجنيدي، وهما من أبرز المطلوبين لها، وأصابت المئات بجروح مختلفة.
توجهنا انا و صديقي الياس الى قسم الطوارئ لانعاش من وصل من الاصابات
وجدنا اصابتين قد توقف القلب لديهما. بدأنا بانعاش المصابين دون ان نلتفت الى وجوههم.
استدعينا جراح القلب و قام بفتح صدر المصاب و حاولنا بكل جهدنا انعاشه و كان الياس بين الطاقم المشارك في انعاش ذلك المصاب
توقف الجراح و اعلن عن وفاته. التفت الياس لوجه المصاب و صاح باعلى صوته وسط الطوارئ
” اسود ، هاد ابوي “.
هوية المصاب للصدفة في جيبي. اشهرت الهوية في وجه الياس و سالته: هاد ابوك؟
” صحيح هاد ابوي”
صمتٌ رهيب في الطوارئ. لا نعلم ماذا نقول او نتصرف
تقبله الله شهيدا
صبركم الله على مصابكم
انا لله و انا اليه راجعون
تنقّل بين والده والآخرين
يقول الممرض أسود للجزيرة نت “سارعنا لإنقاذ المصابين الذين عجَّ مركز الطوارئ بهم، وكان قلب الشهيد الأشقر متوقفا بالكامل، فحاولت وزميلي إلياس إنعاشه بعد فتح صدره وإخراجه بين أيدينا، لكن الرصاصة التي أصابته كانت من النوع المتفجّر القاتل، واستخرجت وحدي 15 شظية من قلبه”.
وعلى هذه الحال، ظل إلياس يسعف المصاب من دون أن يعرفه ولا يبخل على الجرحى الآخرين بتقديم العلاج في الوقت ذاته، إلى أن جاء إعلان الطبيب باستشهاد عبد الهادي الأشقر، وحينها نظر إلياس -كما نحن- مذهولا للمصاب وصرخ “هذا أبي، أبي”.
وزاد الحزن وشعورنا بالقهر والصدمة أكثر لحظة وصول أشقاء إلياس الأربعة ونحيبهم الذي ملأ غرفة الطوارئ “أبوي مات، أبوي مات”، بينما أمسك إلياس وجعه وصمت.
استشهد بين يديه
وأصيب عبد الهادي عبد العزيز أشقر (61 عاما)، وهو من سكان مخيم عسكر للاجئين، برصاصة قاتلة في أثناء عمله في تدريب السواقة بالمنطقة الشرقية للمدينة.
وعبر رمز خاص يتم تشخيص حالة المريض ويستدعى لذلك الأطباء والممرضون والأطقم المساعدة، لا سيما في حالة الطوارئ، لتقديم المساعدة بعيدا عن أسماء المرضى، فالمهم “إنقاذ حياة المريض أو المصاب”، حسب ما يقول المدير الطبي لمشفى النجاح الوطني الجامعي بنابلس الطبيب عبد الكريم البرقاوي.
ويضيف البرقاوي للجزيرة نت أنهم يطلقون أسماء ورموزا خاصة بينهم على المرضى في أثناء علاجهم، ولهذا اهتم الممرض إلياس بإنقاذ المصاب من دون معرفته، “وصُدمنا جميعنا لحظة اكتشاف أن الشهيد هو والده”.
ويشير برقاوي إلى أنهم عملوا بطاقم كبير -أمس الأربعاء- تجاوز 50 طبيبا وممرضا لإنقاذ شهيدين و16 مصابا، بينهم حالات خطرة احتاجت لعمليات جراحية من دون حضور أهل المصاب أو معرفتهم.
ويردف “جهَّزنا أقساما أخرى لاستقبال الجرحى بعد أن امتلأ قسم الطوارئ، كما هي الحال في معظم مشافي المدينة، فالحدث جلل وتعجز الكلمات عن وصفه”.
سحبه من وسط الرصاص
ومثل الممرض إلياس، كانت حال المسعف في جمعية الهلال الأحمر محمد بعارة، الذي نقل قريبه الشهيد المسن عدنان بعارة (72 عاما) من دون أن يعرفه.
ويقول المسعف بعارة -للجزيرة نت- إن الشهيد كان مضرجا بدمائه على الأرض ولم يستطع أحد الوصول إليه لإنقاذه بسبب انتشار القناصة الإسرائيليين وإطلاقهم النار على كل ما يتحرك. لكن بعد محاولات حثيثة، وصل عدنان وزميل له للشهيد ووضعاه على النقالة وأوصلاه لسيارة الإسعاف.
ويضيف بعارة أن قريبه (عم والده) كان مصابا برصاصة في رقبته وأخرى بخاصرته “وأدركت أنه استشهد، لكن انتظرنا حتى دخوله المشفى وإعلان الطبيب ذلك، وعندها دققت ببطاقة هويته فأيقنت أنه قريبي، فاتصلت بوالدي أخبره بذلك”.
ويردف المسعف قائلا إن الشهيد الستيني لم يقترف جرما يستدعي قتله، “فقد كان عائدا من بلدية نابلس بعد أن أعد شهادة براءة ذمة لمحله التجاري وسط السوق”.
ويصف “صعوبة المشهد وقتامته” يوم أمس بقوله إن العملية العسكرية كانت “الأعنف بين سابقاتها” من كل النواحي، لا سيما من حيث توقيتها وآليتها وأعداد الشهداء والجرحى المهولة، وهو ما رفع حالة التأهب بشكل أكبر لديهم، وكان العمل لإنقاذ المصابين من دون محاولة معرفتهم.
وبنحو 17 مركبة إسعاف من مختلف المراكز الطبية وفي معظم مشافي مدينة نابلس الحكومية والخاصة، عمل الأطباء والمسعفون لمواجهة “المجزرة الإسرائيلية” كما يصفها مدير الإسعاف والطوارئ بجمعية الهلال الأحمر في المدينة أحمد جبريل.
مجزرة
وأسفرت عملية جيش الاحتلال، أمس الأربعاء، عن استشهاد 11 فلسطينيا وإصابة 152 بالرصاص الحي ونحو 300 حالة اختناق شديد بالغاز المسيل للدموع، فضلا عن 40 حالة سقوط، و7 أصيبوا بعد أن دهستهم سيارات الاحتلال العسكرية.
ويصف جبريل “المجزرة” للجزيرة نت بأن “الحدث كان صعبا وعنيفا جدا، وبدأ باستهداف المواطنين بإطلاق النار العشوائي من جنود الاحتلال مباشرة وعبر الطائرات المسيّرة (الدرون)، وهو ما أوقع عددا كبيرا من المصابين، غالبيتهم من المدنيين وبينهم مسنون وأطفال”.
ويضيف جبريل أنه “لم نحاول التعرف على المصابين، وكان همنا إنقاذهم ونقلهم للمستشفيات المختلفة، ولهذا تأخر كثير من الأهل في معرفة أماكن أبنائهم من الشهداء والمصابين”.
وعن قرب، رصدت الجزيرة نت حالة الصدمة التي أصابت أهالي الجرحى والشهداء بمشافي المدينة، لا سيما مشفى رفيديا الحكومي الذي وصل إليه العدد الأكبر منهم.