- ادب مشترك, السومانيون, سودانيون, يأبى الاغتراب, يمنيون
- 0 Comments
- 913 Views
الخرطوم – البحر الذي يراه البعض حدًا فاصلا ونهاية، يراه المهتمون بالتاريخ والأنثروبولوجيا رابطا بين سكان ساحليه وسببا للهجرات بينهم؛ إذ نقلت السفن التي تمخر عبابه أقواما وثقافات.
وينطبق الحال على البحر الأحمر (بحر القلزم)، الذي شهد هجرات بين شواطئ الحجاز واليمن شرقا، وشرق أفريقيا غربا، ومن ذلك ما كان بين موانئ اليمن والسودان عبر بوابته الأقدم مدينة سواكن.
رحلات وهجرات
وبحسب الباحثين، فإن هذه الهجرات منتظمة منذ ما قبل الميلاد واستمرت بعد ذلك قرونا، ولقد ورد أمر السفر والرحلات في كتب المؤرخين والرحالة، ومنهم الرحالة ابن بطوطة، الذي يروي قصة سفره من سواكن لليمن، ويقول فيها “ركبنا البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن”، إلى أن يقول “بعد 6 أيام من خروجنا من جزيرة سواكن وصلنا إلى مدينة حلي”.
أسهمت هذه الرحلات والهجرات في صناعة قواسم مشتركة تضاف للمشتركات الكبرى، فلا يشعر المهاجر من السودان إلى اليمن أو العكس بالغربة، وهذا ما يعتقده الشاعر السوداني عمار حسن سعد الدين، الذي نشأ في صنعاء، بفعل “المشتركات الكبيرة التي جعلت الإحساس بالغربة ضئيلا”.
ويضيف سعد الدين في حديث للجزيرة نت “حتى العادات والتقاليد فيها الكثير من التقارب والتشابه، وبعضها متطابق”، وهو الإحساس نفسه الذي انتاب الشاعر اليمني المقيم بالسودان آدم الحجري، الذي قال “منذ قدمت للسودان وأنا أشعر أني أتجول في بلد واحد يتشابه في العادات والتقاليد والطقوس والثقافات”.
سعد الدين والحجري شاعران تقاسم وجدانهما حب السودان واليمن في امتداد لرحلة أدباء ومثقفين ممن أسماهم الطبيب والشاعر السوداني نزار غانم بـ”السومانيين”.
ومن “السومانيين” برز الشاعر السوداني أبو تلة الحسن القائل:
“بلقيس تغزل عرشها للحب فوق الماء
تعلن أنها باتت تحب النيل
قل: بلقيس واحدة، وهذا الحب واحد
يا أيها الملأ اسمعوا يا أيها الزمن اشهد
إني أحب النيل جدًا مثل حبي لليمن”
والحسن مسبوق من قبل شعراء وكتاب ينتمون للبلدين، أبرزهم نزار غانم الأستاذ بجامعة الأحفاد بأم درمان، وكان والده شاعرا مقدما وأستاذا جامعيا للعربية، وله علاقات كثيرة مع الشعراء والأدباء السودانيين، وفي مقدمتهم العلامة عبد الله الطيب، الذي كان سببا في عمل الدكتور محمد عبده غانم (1912-1994) بجامعة الخرطوم، وتلقى غانم تعليمه الثانوي في الخرطوم والتحق بعدها بكلية الطب -جامعة الخرطوم، ورجع بعدها ليلحق بوالده الذي سبقه بالعودة لليمن.
وظل السودان يقاسم نزار غانم حبه، فكان الاهتمام بما يجمع بين وطنيْه -بحسب تعبيره- مما هو اجتماعي وثقافي، وبدأ رحلة الكتابة عام 1977 في مجلة الشباب والرياضة في الخرطوم، ثم صحفية “الأيام” (السودانية) تحت عنوان بين صنعاء والخرطوم، يقول غانم للجزيرة نت “في العام 1985 عدت لصنعاء بعد تخرجي وكتبت 3 مقالات لصحيفة الشرق الأوسط عن 3 شعراء”.
كان الشعراء الثلاثة مشتركي الهوى، مما صعّب الوصف على غانم، الذي يضيف “بدل أن أقول شعراء يمنيين سودانيين، أو سودانيين يمنيين نحتت كلمة (سومانيون)”، ويقول إنه استشار الشاعر الكبير عبد الله البردوني في هذا النحت، لكن البردوني فضل أن يكون (يماسودي)، غير أن نزار غانم راقته (سوماني).
الطريقة السومانية والفراهيدي
الاسم الذي نحته نزار غانم ظل يتردد، وأشاعه محبو البلدين، وكاد يُنسى من نحته إلى أن أتى العام 1994 وأصدر نزار غانم كتابه “جسر الوجدان بين اليمن والسودان”، والذي أوضح في مقدمته سبب الكتابة ولماذا نحت الاسم، وراح ينسب إلى الكلمة الجديدة فيقول: فن سوماني، أغنيات سومانية.. إلى غير ذلك، ويعد الكتاب مرجعا مهما في شأن العلاقات بين البلدين.
سألنا غانم عن الإضافة الجديدة، فأجاب “اخترت كلمة الطريقة لأدلل على كونها مسالمة، لا علاقة لها بسياسة أو غيرها، والطرق بشكل عام لا تهتم بخلفيات الناس الفكرية أو الإثنية”.
انتشر الاسم وبدأ الناس في استعماله، خاصة الكتاب والأدباء ممن شملتهم هذه المظلة، والأمر عند نزار غانم ليس مربوطًا بعضوية أو شروط، المهم أن تكون ممن عرف حب البلدين الطريق إلى قلبك.
يقول الدكتور نزار غانم في إفادته للجزيرة نت “ليست السومانية شيئا يخص نزار غانم، فهي قبله وستكون بعده، هي تسمية وتوصيف ومحاولة للتوقف وتعضيد هذه العلاقة وجعلها منتجة”.
ويرى نزار غانم في فكرة الخليل بن أحمد وأوزان الشعر مثالا مشابها لحالته، ويقول “مثلما كان الشعر وأوزانه ثم جاء الخليل، كانت السومانية قبل نزار غانم وستبقى بعده، فهي مسار وليست حدثا”.
الشاعر عمار حسن سعد الدين يذكّره أمر السومانية بتيارات الشعر، فيقول “ربما صنّف شاعر ما بانتمائه لتيار شعري معين، والسبب أن ما كتبه موافق لما يدعو له هذا التيار، إن كانت الكتابة لم تكن استجابة لدعوة معينة من هذا التيار أو ذاك”.
جسر الوجدان بين اليمن والسودان
ليست العلاقات بين السودانيين واليمنيين علاقات ثقافية واقتصادية وسياسية فقط، بل فيها علاقات المصاهرة والزاوج، سواء كان في الهجرات الجماعية القديمة أو حتى بشكل فردي فيما هو معاصر؛ لذلك تجد بين الأدباء والمثقفين المعاصرين من كانوا يمنيين من جهة الأم أو الأب، وسودانيين من الجهة الأخرى.
وقد انتبه الحجري في إفادته للجزيرة نت لذلك، فقال “كنت أسمع والدي يتحدث بحب عن المدرسين السودانيين الذين سكنوا لعقود في قريتنا وفي معظم قرى ومدن الجمهورية، بل إن البعض تزوّج واستقر وأصبح جزءا لا يتجزأ من الشعب اليمني”، وفي كتاب صاحب السومانية “جسر الوجدان بين اليمن والسودان” ذكرٌ لبعضهم.
وفي إفادته، يرى نزار غانم أن هذه إحدى سمات العلاقة بين البلدين لكنها ليست شرطًا، بل لا يشترط أن يكون الأديب سودانيا أو يمنيا. يقول نزار غانم “ما هو بيولوجي ليس مهما، بل إن هنالك من السومانيين من لم يكن سودانيا أو يمنيا، فهناك من هم من العراق والكويت ومصر مثل الشاعر المصري مجاهد العشماوي (توفي 2021) الذي أحب البلدين وكتب فيهما شعرًا، والشاعر المصري سعد دعبيس”.
القات والشلوخ ودكان اليماني
هذه العلاقة أثمرت أدبًا له ملامحه، فهو محتشد بالمحبة والوفاء للأمكنة وذكرها، ومن ذلك قصيدة الشاعر عبد العزيز المقالح (1937-2022) في مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة (190 كلم جنوب الخرطوم) ونثره فيها، الذي منه “تلك مدني ذات الوادي المحيط بالنهر الممتد إلى ما لا نهاية، تدخلها فيتقشر غبارك، وتتلاشى معالم العتمة التي جئت منها. هنا لا تقف تحت سماء صاحية عمياء، بل فوق أرض تشبه سماء خضراء يتجدد ربيعها كل يوم ويورق بأشجار تضيء وأعشاب لا تتوقف عن الغناء”.
ويرى الشاعر عمار سعد الدين أن الفروق هل التي تستوقف الشعراء أكثر وتصلح مجموعة من القصائد والسرديات.
وقد ذُكر القات كثيرا في شعر السودانيين بين نبذه أو اعتباره طقسا يمنيا، يقول سيد أحمد الحردلو (1940-2012) “ناوليني (القات) وابتسمي فأنت لنا وطن”، ومثلما استوقف القات الحردلو، استوقفت اليمنيين عادة شلوخ (جرح على جانبي الوجه للفتاة) -التي بدأت في الانحسار-، كتب المقالح يقول:
“رآها الجمال بلا حارس وخاف عليها عيون الحسود
فمد يديه بحزن عميق خدَّش بالكف حمر الخدود
فيا ليته لم يمس الوجوه ولم يطمس النار ذات الوقود”
كما تناول هذا الأدب الصور النمطية وعالجها مثلما فعل القاص السوداني علي المك في قصته “دكان اليماني”.
وتجدر الإشارة إلى أن المنتج السوماني، بحسب تسمية نزار غانم، كبير جدًا ومتنوع، فقد أثبت في كتابه عشرات القصائد وعددا من القصص، كما أشار للمسرح والتشكيل والموسيقى، وأحصى 67 أغنية توزعت فيها الجنسيتان بين شعر ولحن وأداء.
مثال يحتذى
يقيم السومانيون فعاليات ثقافية متعددة في محتواها وأماكن انعقادها، آخرها ما كان بداية مارس/آذار الجاري تعاونا مع بيت الشعر في الخرطوم تحت اسم “أشجان سومانية-3”.
ويرى المتابعون أن أي شكل من أشكال التواصل الثقافي يعضد العلائق بين الشعوب ويقويها. ويذهب عمار سعد الدين في ختام إفادته إلى أن “الثقافة أقدر من غيرها في تمتين الأواصر وإظهار ما يربط الشعوب”.
ربما يشكل السومانيون مثالًا يحتذى في الصلات بين الشعوب، خاصة التي تمتلك من عوامل الوحدة بينها الكثير، وقديما قال الشاعر السوداني التجاني يوسف بشير:
وثقي من علائق الأدب الباقي ولا تحفلي بأشياء أخرى
كل ما في الورى عدا العلم لا يُكبِّر شعبًا ولا يُمجّد قُطرا